تصدير: "إذا رأيت حجرا في الطريق فأزله و لا تنتظر
حتى تتعثر به" الحكيم الهندي يوجي
في مواصلة تحليلنا للدروس المستفادة من محنة الكورونا
، و ما أتينا عليه بالبيان في المقالة السابقة "الدرس الكبير:
الكورونا والقيامة الصغرى" [1]
في المستوى المجتمعي والمستوى الديني والثقافي، نرتحل في هذا المبحث إلى
المستوى السياسي ونتساءل عن دور السياسيين في مجابهة هذه الأزمة؟
بداية من الضروري إجراء مقاربة مفاهمية للمصطلحات ودون الخوض في تفصيلاتها
المعقدة ابتعادا عن الضجر الأكاديمي و تحقيقا لأهدافنا المنشودة من المقالة.
أولا: ماهي الدولة؟
الدولة من اكثر المصطلحات التي حضيت بتعريفات عديدة عند الاصطلاحيين والفلاسفة
وعلماء الاجتماع وغيرهم، حيث اخترقت المكتبة السياسية -على امتداد حضارات الإنسان-
عديد المصنفات التي اهتمت ب"الدولة" نشأة ومفهوما وتطورا..
ويعود توسع البحث المعرفي في هذا الموضوع لأسباب اديولوجية و سياسية و تباين
وجهات النظر بين المفكرين في ما بينهم، هذا بالإضافة إلى التطور التاريخي للدول
والديناميكية القوية في استقرار الشعوب وكياناتها.
كما أن موقع الفيلسوف أو صاحب التعريف مقابل السلطة الحاكمة له الأثر المهم في
تحديد المصطلح، سواء كان من معارضيها أو مؤيديها.
يرى المفكر الألماني ماكس فيبر Max Weber تعريفا –وهو الأكثرتداولا
بين الباحثين- حيث يعرفها ب"أنها
منظمة سياسية إلزامية مع حكومة مركزية تحافظ على الاستخدام الشرعي للقوة في إطار
معين الأراضي."[2]
نلاحظ من هذا التعريف بأن الدولة هي كيان منظم مستقل عن الأفراد لها الحق في
استعمال العنف المشروع تمارسه وتحتكره من أجل الاستقرار والاستقلالية عن قوى الأشخاص
والأحزاب، بالتالي فالدولة من خلال مؤسساتها لابد أن تتملّك القوّة اللازمة لفرض
سلطة القانون في رقعتها الجغرافية.
ماكس فيبر Max Weber (1864-1920) هو أحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث ومن
المهتمين بعلوم الأديان والتاريخ وهو صاحب
النظرية البيروقراطية، و من كتبه "السياسة كمهنة" لذلك يتبين وعي الرجل
بالدولة وغياهبها، فهو من ابنائها.
يقول نيكولاس بولانتزاس صاحب كتاب نظرية
الدولة:" فالقبول إذا بفصل القانون عن العنف هو خطأ من كل الوجوه، حتى،
وخاصة بالنسبة للدولة المعاصرة، لأن هذه الدولة القائمة على القانون، أي دولة
القانون من كل لون، تمتلك أكبر وأعلى احتكار للعنف وللإرهاب، ألا وهو احتكار الحرب"[3]
هذا الترابط بين الدولة والقانون و العنف، قابله بول ريكور (1913-2005)الفيلسوف
الفرنسي بالـدعوة إلى ربط الدولة بالسلطة ، وبالتالي الانزلاق من إخضاع الافراد عبر العنف المشروع إلى إمكانات السلطة في
التأثير والإقناع والتربية.
يقول بول ريكور في "السلطة والعنف" عند معالجته أفكار المنظرة السياسية
الألمانية "حنا ارندت" (1906-1975)
"سيكون باستطاعتنا مع
ماكس فيبر أن نقرن بين العنف والمشروعية ، واذكر هنا بتعريفه للدولة: " فهي
علاقة هيمنة الإنسان على اللإنسان، مؤسسة على العنف المشروع، أي على العنف الذي يعتبر
شرعيا" ولا بأس من التذكير بأن فيبر قدم هذا التعريف في إطار حديثه عن مهنة
واتجاهات رجل السياسة أي ضمن خطاب موجه إلى طلبة آخرين هم دعاة السلام الألمان
الشباب، الذين استهواهم اللاعنف، non-violence غداة النتائج الكارثية للحرب العالمية الأولى"[4]
هنا لابد أن نستدعي عديد المفاهيم المرتبطة بالدولة كالهيمنة والنفوذ والسيادة
والسلطة والقانون، فهذه المفاهيم ملازمة لها وضامنة لاستمراريتها وريادتها. في هذا
الإطار ننوه بمجهودات ابن خلدون (1332-1406)عالم الاجتماع التونسي والمفكر السياسي
حيث يعتبر مبحث الدولة من أبرز فصول المقدمة والتي مثلت حيزا كبيرا في صفحاتها.
وقد أكد الأستاذ الدكتور رياض عزيز هادي عميد كلية العلوم السياسية ببغداد
سابقا في مقال منشور بمجلة العلوم السياسية في العدد الخاص بالذكرى 50 لتدريس
العلوم السياسية بالعراق على أن:
"إن نزعـة ابـن خلـدون التطويريـة تدفعـه
إلـى أن يـرى فـي حركـة المجتمـع البشـري حركـة قائمـة علـى أساس بيولوجي شبيه
بالحركة الحياتية للكائن الحي((فالعمران كله من بداوة وحضارة وملك وسـوقة لـه عمـر
محسـوس كمـا إن للشـخص الواحـد مـن أشـخاص المكونـات عمـرا محسوسـا ) وانطلاقـا من
هـذه المســلمة فــان كاتبنـا يتصــور الدولـة، التــي تمثـل شــكلا مـن أشــكال
التعبيـر عـن حركــة المجتمــع والتاريخ، يتصورها وكأنها كائن حي تتبـع اتجاهـا
فـي حياتهـا، فالدولـة لهـا عمـر محـدود، تولـد وتنضـج وتهرم، أي تخضع لعوامل النمو
والفناء"[5]
فالدولة الخلدونية تنشأ وتهرم وتتجدد حتى جعل الفصل الرابع عشر من الباب
الثالث في المقدمة تحت عنوان'في أن الدولة بها أعمار طبيعية كما للأشخاص"[6] و لم يغفل ابن خلدون عن ذكر
أركان الدولة كالسلطة من خلال اللفظ المستعمل "السلطان" و"الملك"
و"الرئاسة " ،و الشعب باستعمال اللفظ المقترن بالعصبية والقبيلة.
فوظيفة الدولة صاحبة السلطة على "الإقليم"
أو "الأوطان"- حسب تعبير ابن خلدون- هي المدافعة عن بقاء رعاياها
وحمايتهم أمنيا و اقتصاديا و روحيا ومعاشيا وهي المسؤولة على ضمان حقوق مواطنيها
بالعدل ونبذ الظلم تفاديا للخراب والهلاك.هذه الرؤية الخلدونية اعتبرها تكرس لسيادة الدولة وجالبة لمصطلح قديم جديد وهو "رجال الدولة"
ثانيا: انتفاضة رجال الدولة وموت السياسي
ارتبطت السلطة الحاكمة عادة بوجود ساسة يديرون دواليب
الحكم ويوقعون استراتيجيات مستقبلية وأفكار تخرج الأمة من ضيقها وتفرج عنها
أزماتها المتتالية.
وعلى مر التاريخ الإنساني نجد استحواذ السلطة
السياسية بيد الطبقات الأرستقراطية والنبلاء، وإن تواصلت هذه الميزة في بعض الدول
إلا أنها انتفت في كثير من الدول الأخرى لتظهر طبقات سياسية تضرب عرض الحائط مصالح
شعوبها أمام مصالحها الضيقة وانتمائها للحزب اوالمجموعة المصغرة أكثر من انتمائها
للوطن.
هذه النزعة البراغماتية قوّضت أركان الدول – خاصة التي
مرت بتجارب المستعمر المتوحش-، والتي لم تتمكن نخبها السياسية من تجاوز مشاكلها.
هذا هو حال الطبقة السياسية التونسية، المنقسمة إلى
يمين ويسار و ووسط، بل تعددت العائلات
السياسية وسط هذه التقسيمات، واستجلبت عديد المنتمين إليها والراغبين في الوصول إلى
السلطة حماية لأنفسهم، أو مصالحهم.
كل هذه العائلات السياسية ساهمت بخصاماتها -أو كما
تدعيه ب"نضجها السياسي" والديمقراطية الناشئة مرددة في الآن ذاته
"نحن في الطريق الصحيح" – في تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي وصعوبة
المعيشة.
ظهر في أفق هذه الفوضى ما تم تسمتهم ب"الفتيان
الذهبيون"[7]
وهي طبقة جديدة من السياسيين المتفوقين في دراستهم لهم مشاريع نيولبرالية يتعاملون
مع الوطن كشركة أو مؤسسة و يشتركون في عديد النقاط: سهولة الوصول إلى السلطة،
الجانب التقني الفني، خطاب جديد.
هذه الطبقة الشبابية المتعلمة في أرقى الجامعات
الأوروبية ورغم محاولاتها سحب البساط من الطبقة السياسية القديمة إلا أنها تلقى تشكيكا كبيرا في نواياها ولا تحضى بمصداقية
عند عموم الشعب التونسي الذي لا يراها فعلا قريبة منه عالمة بمشاغله.
أمام تتالي الأزمات آخرها أزمة الكورونا واندثار كل
الطبقات السياسية من الساحات العامة، وفي ظل غياب الحلول الاستراتيجية كان من
الضروري التنويه بضرورة ان ننفض الغبار عن ما نسميهم ب"رجال الدولة":
-رجال الدولة هم أفراد منتسبون للدولة يستشعرون في
داخلهم قيم الوطنية وروح المسؤولية.
-رجال الدولة هم من يستبطون داخلهم مفهوم الدولة
ويعملون من أجل المحافظة على استمراريتها وهيبتها.
-رجال الدولة هم من يقدرون على بسط نفوذ الدولة في
كامل أركان الوطن دون خوف أو يد مرتعشة.
-رجال الدولة هم من يحيطون أنفسهم بكفاءات تقنية
تساعدهم على القيام بمهامهم و تعينهم على حسن إدارة الأزمات.
-رجال الدولة هم من يجعلون سلطة القانون عادلة بين
الافراد، لا أن يغيروا القوانين خدمة لمصالح شخصية.
-رجال الدولة هم من يحملون روحا شبابية وعقلا راجحا ونزعة وطنية،
لهم من الجرأة والمصداقية ما يؤهلهم لإخراج البلاد من أزماتها
-رجال الدولة هم من يعملون على تكريس رموز شعار
الجمهورية: النظام ، الحرية، العدالة
نذكر في ختام المقال أن من أهم أسباب تفاقم الأزمة
بإيطاليا احتدام الصراع السياسي بين السياسيين في المنابر الإعلامية.
(يتبع)
[2] فيصل براء المرعشي: الموسوعة السياسية، مقال بعنوان " مفهوم الدولة
- The Concept of State
[3] نيكولاس بولانتزاس: نظرية الدولة، ترجمة ميشال
كيلو، التنوير للطباعة والنشر، ط2، سنة 2010، ص72
[4] بول ريكور: السلطة والعنف، ترجمة عزالدين
الخطابي وعبد الحق منصف،مؤسسة مؤمنون بلاحدود، قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية،
سنة2018،ص04
[5] رياض عزيز هادي: مفهوم الدولة ونشوءها عند
ابن خلدون، بحث نشر في مجلة العلوم القانونية والسياسية، العدد3، سنة 1977
[6] ابن خلدون: المقدمة، دار الفكر
للنشر،سنة2004،ص170
[7] انظرالمقالة كاملة تحت عنوان: تونس: الفتيان
الذهبيون والمشاريع الصدئة
مقالة موجودة في عديد المواقع الألكترونية
تعليقات
إرسال تعليق