القائمة الرئيسية

الصفحات

الدرس الكبير(ج3): عبقرية شباب جربة ستنتصر على الكورونا

تصدير: قيل سابقا: " كلّ ما يفكّر ألماني"

 ونقول " الفكر وليد العقبرية الجربية"


هذه المقالة هي ختام المقالات الثلاث حول أزمة الكورونا والدروس المستفادة منها.
وقد سبق هذا العمل مقالة أولى تحت عنوان " الدرس الكبير (ج1): الكورونا والقيامة الصغرى"[1] وهي تحليل للمستوى المجتمعي والديني والثقافي وآثار ذلك في أزمة الكورونا. أما المقالة الثانية فهي تحت عنوان" الدرس الكبير (ج2): الكورونا بين سيادة الدولة وموت السياسة" [2]وهي تحليل للمستوى السياسي في التعامل مع هذا الوباء.
وخلصت في نهاية تحليلنا إلى مجموعة من الملاحظات :
-أن الشخصية التونسية متأثرة بمحيطها المتوسّطي فهي شخصية سسيوباتية ما يفسّر بعض سلوكاته الاجتماعية ونفسيته الانفعالية.(مقال1)
-  استقالة المثقف وعجزه أمام هذه الجائحة  يتأكد ضرورة بناء ثقافة جديدة بمثقفين جدد همّهم النهوض بمجتمعهم لا بيع إصداراتهم.(مقال1)
- أهمية تجديد الوعي الديني والتعامل المقاصدي مع آيات الكتاب الحنيف اقتداء بالنبي الكريم عليه الصلاة والسلام.(مقال1)
- ضرورة تصّدر  "رجال الدولة" الوطنيون المشهد السياسي واندثار الطبقة السياسية البراغماتية. (مقالة 2)
من خلال هذه الأسطر  سنثور على المنهج الأكاديمي التحليلي لما يخلقه من إرهاق ذهني وضجر فكري و سنحاول تبيّن الجانب المشرق في التعامل مع هذه المحنة، وكيف تمكّن الشباب في جزيرة جربة من التعاطي  مع الأزمة ومحاولة معالجتها بالطرق المختلفة رغم ضعف الإمكانات المتاحة. لتكون هذه الجزيرة الصغيرة على ضفاف المتوسط بوعي شبابها وأفكارهم بحق "برلين الصغيرة".
1.       الشخصية الجربية وانفعالاتها.
عادة ما تبقى جزيرة جربة وحيدة في مواجهة الأزمات التي تلحق بمتساكنيها وسط لامبالاة الحكومات المركزية أو لخصوصيتها الجغرافية  في جنوب شرق البلاد التونسية. ذكر الشيخ يوسف الباروني صاحب كتاب "جزيرة جربة في موكب التاريخ" :" تعتمد حياة المجتمع الجربي على الفلاحة والتجارة والصناعة التقليدية وصيد البحر، كما ذكر انه مرت بالجزيرة أزمات اقتصادية يذهب الرجل إلى المدينة ليشتري ما يقتاته فيعود بكيسه فارغا. يبقى أهل جربة في خصاصة ينتظرون السفن الحاملة لبعض المواد الغذائية من مدينة صفاقس أو مدينة تونس أياما"[3]
وقد سرد المؤلّف بعض الأحداث التاريخية منها المتعلقة بالأوبئة في سنة 750هـ و 1117هـ ومارافق ذلك من مصاعب اعترضت سكان الجزيرة و مرجحا ذلك إلى أسباب عديدة: " ومن أسباب انتشار هذه الأمراض الوبائية في القديم هي فقدان المواد الغذائية في الأسواق وانحباس الأمطار وعدم وجود جهاز صحي يشرف على صحة المواطنين وإهمال الحكام وضعف الحكومة التي تشرف على حضوض الشعب لأن همهم حماية أنفسهم وسلطانهم من الأعداء في الداخل والخارج وجمع الأموال والشعب يموت جوعا وعطشا ومرضا."[4]
لم تمنع شدّة الأزمات من ظهور شخصيّة الجربي المتألقة في استنباط وسائل نجاة وابتكار أساليب دفاعيّة على مستوى عدّة حربية كانت أو اقتصادية أو تربوية ليحمي بها تواجده و يعزّز بها استقراره. ولا يعني ذلك انغلاقا في التعامل مع الآخر فمرور حضارات عديدة على الجزيرة جعلها تتفاعل ثقافيا و تشع على المستوى الخارجي شرقا وغربا وقد امتلأت المكتبة العالمية بالمصنفات حول  تاريخ وثقافة جربة في كل العهود والعصور منها كتاب « les djerbiens » لصاحبه René Stablo
وتبقى الآثار المادية والحفريات الأركيولوجية دليلا على عراقة الجزيرة وانتصارها على كل المحن والأزمات. تبقى أهمها خلودا في التاريخ انتصار الجزيرة على الأسطول الإسباني سنة 1510م بقيادة شيخ الحكم أبي زكرياء يحي السمومني [5]
يقول الدكتور رياض مرابط في تشخيصه لواقع التراث الأثري والتاريخي الإسلامي بجزيرة جربة : " إذ تمتلك الجزيرة تجربة تاريخية محلية فريدة تتمثّل في الأدوار الخصوصية التي لعبتها خلال العصر الوسيط وخلال مرحلة الصراع الإسباني العثماني في القرن السادس عشر وأيضا خلال القرن السابع عشر والثامن عشر"[6]
هذه الفرادة التاريخية استجلبت انفعالات عديدة تكوّن شخصيّته و التي تتميّز بجديّتها وشغفها بالعمل المتقن والتعويل على الذات ، بالإضافة إلى سرعة بديهة تجعله يلتقط اللحظة المناسبة فهو يكنز في داخله ثقافات عديدة رومانية و وبربرية أمازيغية وعربية و تركية وغيرها،كما ساهمت التجارة في تعزيز شخصية الجربي بالجرأة و المغامرة. يقول ابن خلدون في ايّ أصناف النّاس ينتفع بالتجارة : " فإن كان جريئا على الخصومة، بصيرا بالحِسبان، شديد المماحكة، مقداما على الحكام، كان ذلك أقرب له إلى النّصَفَة منهم بجرأته ومماحكته"[7]  
ولا ريب من واقعية التسمية حين قلنا أن جربة هي "برلين الصغيرة" فذلك توصيف بعد تحقيق في تاريخ ونظر في حيثيات واقعية.
مميزات المثالية الألمانية وغيرها من الحركات الفلسفية الكبرى وظهور الفلاسفة العظماء كنيتشه Friedrich Nietzsche ، وشوبنهاور Arthur Schopenhauer و هيغل  Hegel و شلايرماخر Friedrich Schleiermacher وغيرهم بالإضافة إلى اجتماع الفنون في أرقى أشكالها و استمتاع الفنّ العالمي بسنفونيات و ألحان عديد الموسيقيين الالمان مثل الموسيقى الكلاسيكية الألمانية مجسّدة في بيتهوفن،  و موسيقى العاطفة و الرومانسية مثل مقطوعات شومان "Robert Schumann
كلّ  ذلك أراه شبيها للحركة الثقافية عبر تاريخ جربة بمدارسها العلمية والفكرية و تعدد الشخصيات الفاعلة حضاريا في كل مستوياتها وأبعادها. يقول الدكتور مرابط في نفس التقرير: " وحري بالتذكير أن جربة مثلت خلال العصر الوسيط ملاذا لمجموعات بشرية وعقائدية على غاية من الأهمية من حيث خصوبة تجربتها التاريخية وإسهامها في بناء الثقافة العربية الإسلامية وكذلك
من حيث محافظتها على جوانب لغوية واجتماعية من الشخصية الوطنية تتميز بأصالتها وبندرة وجودها خارج جزيرة جربة."[8]
فكيف استطاعت هذه الشخصية الجربية معالجة أزمة الكورونا؟
2.عبقرية الشباب الجربي :
يقول ستيف البرخت في كتابه "إدارة الأزمات"  بعد سرده لأمثلة شركات مرت بأزمات " يوحي تحليل هذه الأزمات بوجود دورة حياة للأزمة، فكل منها تبدأ عند لحظة معيّنة،ثمّ تشتدّ بسرعة، ثمّ تخبو حتى تنتهي. وفي هذا تماثل م النموذج البيولوجي لمراحل حياة الكائن الحي،عبر الميلاد، والنمو، والنضج، والموت"[9]
إذا أي أزمة تمرّ بمراحل تشبه مراحل نمو الإنسان تنتهي باستكمال دورتها الحياتيّة أو بقدرة البشر على إجهاضها من أولها أو معالجتها وإيجاد السبل الكفيلة لمقومتها.
فالأزمة كمشكلة مفاجئة تفترض إيجاد آليات ووسائل وإرادة من أجل القضاء عليها او تقليص آثارها على الحياة المعاشة للأفراد أو المؤسسات. هنا نرصد لكم متابعتنا لمجهود الشباب في إدارة الازمة ومحاولة تطويقها:
·         الوعي بخطورة الكورونا وتكوين فريق أزمات: اجتمعت مجموعة من الجمعيات وقامت بتأسيس تنسيقية بينهم من أجل توعية المواطنين بالإجراءات الوقائية المطلوبة في صورة تفاقم الأزمة وتقسيم المهام بين الجمعيات من أجل حسن إدارة الأزمة والتنسيق مع السلط المحلية. هذه التنسيقية تحت اسم تنسيقية الجمعيات بجربة للتصدي لفيروس الكورونا، وتتكون من الجمعيات التالية: جمعية الشبان و العلم - جمعية المهندسين الشبان بجربة- جمعية جليج جربة.- الغرفة الفتية الاقتصادية - منظمة الدفاع عن المستهلك - جمعية مواطنة و حريات - منظمة المتوسط لتنمية الثقافات - المواطن المتطوع
- جمعية التنمية بمليتة.. جمعية أصدقاء المدينة - منظمة عين تونس - جمعية غيزن المستقبلل

·         العمل التطوعي والتثقيف المجتمعي: انطلقت عبر مجموعة فايسبوك تحت اسم Djerba Volunteers وهي مجموعة شبابية تهدف للتطوع من أجل مقاومة وباء الكورونا  ودعوة شباب جربة للتطوع وبث ثقافة التضامن المجتمعي والتكافل بين أفراد الجزيرة، هنا ينقسم عملهم إلى مستوى افتراضي عبر وسائل التواصل الاجتماعي ، ومستوى ميداني يعمل عليه كل من محمد الشروندي و ونورهان التيواجني.
وتمثل نشاطهم في : شراء الكمامات وتوزيعها في المستشفيات و مؤسسات أخرى خاصة في ظل انقطاعها في فترة معينة، توزيع الخبز على دوريات أمنية بمجهوداتهم الذاتية، توزيع المواد الغذائية، توعية المواطنين باتخاذ الإجراءات الوقائية عبر إلصاق ملصقات وقوف أمام بعض المحلات التجارية. هذه الروح الشبابية التطوعية لم تتطلب سوى حبّ الوطن وتمثّلا لقوله تعالى " فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ" سورة المائدة : 48






·       استثمار المعرفة:  يتبّن ذلك في عمل جمعية الشبان والعلم حيث قامت بإنتاج أقنعة ثلاثية الأبعاد وتقديمها للإطارات الطبية بمستشفيات جربة توقيّا من خطر فيروس الكورونا. وهنا يكون استثمار المعارف والعلوم من الوسائل المهمة في تجاوز المحن الكبرى التي يتعرض إليها أي شعب. وانما ادثرت عديد الشعوب السابقة جراء عدم تمكنها من تحصيل المعرفة واستثمارها من أجل التقدم والرقي والتطور


                             


·       .جمع التبرعات المادية: جمع التبرعات من أهم الوسائل الناجعة والراقية في الدول المتحضرة هذا الجانب اشتغلت عليه جمعية MEDDOC  بالتنسيق مع تنسيقية جمعيات بجربة للتصدي لفيروس الكورونا و الودادية للأطباء بجربة من أجل تأمين متطلبات مستشفى الصادق المقدم بجربة عبر الموقع التالي: https://www.cha9a9a.tn/

هذا وقد ظهرت بعض الفيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعي لتوعية المواطنين ضرورة الالتزام بنصائح الأطباء و الالتزام بالحجر الصحي العامّ.
كل هذه المجهودات ستحقق النصر على أي أزمة وإن تجاوزنا بعض المجهودات الاخرى فهو من باب السهو والنسيان

على سبيل الخاتمة:

شــدّ دارك




[3]  يوسف ابن محمد الباروني: جزيرة جربة في موكب التاريخ، تحقيق وإعداد سعيد بن يوسف الباروني، ص 63
[4]  المرجع نفسه، ص 62
[5]  المرجع نفسه، ص 42.
[6]  واقع التراث الأثري والتاريخي الإسلامي بجزيرة جربة، تقرير أعدّه الدكتور رياض مرابط، إصدار جمعية صيانة الجزيرة، ص05.
[7]  المقدمة: ابن خلدون، دار الفكر للطباعة والنشر، ص376.
[8]  واقع التراث الأثري والتاريخي الإسلامي بجزيرة جربة، تقرير أعدّه الدكتور رياض مرابط، إصدار جمعية صيانة الجزيرة، ص05
[9]  ستيف ألبرخت: إدارة الأزمات : فن الدفاع عن النفس لدى الشركات، إصدار الشركة العربية للإعلام العلمي1998، ص05


author-img
باحث في الدراسات الدينية المقارنة

تعليقات